قصيدة الطلاسم / إيليا أبو ماضي
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرتُ قدامي طريقاً فمشيت
وسأبقى ماشياً إن شئتُ هذا أم أبيت
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟
لست أدري
وطريقي ما طريقي؟ أطويلٌ أم قصير؟
هل أنا أصعد أم أهبط فيه وأغور؟
أأنا السائر في الدرب؟ أم الدرب يسير؟
أم كلانا واقف والدهر يجري؟
لست أدري
أجديدٌ أم قديمٌ أنا في هذا الوجودْ؟
هل أنا حرٌّ طليقٌ أم أسيرٌ في قيودْ؟
هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مقودْ؟
أتمنى أنني أدري ولكن
لست أدري
ليت شعري وأنا في عالَم الغيب الأمينْ
أتراني كنت أدري أنني فيه دفينْ؟
وبأني سوف أبدو وبأني سأكون؟
أم تراني كنت لا أدركُ شيئاً؟
لست أدري
أتراني قبلما أصبحت إنساناً سويَّا
أتراني كنت محواً؟ أم تراني كنت شيَّا؟
ألهذا اللغز حلٌّ؟ أم سيبقى أبديَّا؟
لست أدري ، ولماذا لست أدري؟
لست أدري
قد سألت البحر يوماً : هل أنا يا بحر منكا؟
هل صحيحٌ ما رواه بعضهم عني وعنكا؟
أم ترى ما زعموا زوراً وبهتاناً وإفكا؟
ضحكت أمواجه منِّي وقالت :
لست أدري
أيها البحر أتدري كم مضت ألفٌ عليكا؟
وهل الشاطئ يدري أنه جاثٍ لديكا؟
وهل الأنهارُ تدري أنها منك إليكا؟
ما الذي الأمواج قالت حين ثارت؟
لست أدري
أنت يا بحر أسيرٌ آهِ ما أعظمَ أسرَكْ
أنت مثلي أيها الجبّارُ لا تملكُ أمرَكْ
أشبهَتْ حالُك حالي وحكى عذريَ عذرَكْ
فمتى أنجو من الأسْرِ وتنجو؟
لست أدري
ترسلُ السُّحبَ فتسقي أرضَنا والشجرا
قد أكلناكَ وقلنا قد أكلنا الثمرا
وشربناكَ وقلنا قد شربنا المطرا
أصوابٌ ما زعمنا أم ضلالٌ
لست أدري
قد سألتُ السحْبَ في الآفاقِ هل تذكرُ رملَكْ؟
وسألت الشجرَ المورِقَ هل يعرفُ فضلَكْ؟
وسألتُ الدرَّ في الأعناقِ هل تذكرُ أصلَكْ؟
وكأنِّي خلتها قالتْ جميعاً:
لست أدري
يرقصُ الموجُ وفي قاعِكَ حربٌ لن تزولا
تخلقُ الأسماكَ لكنْ تخلقُ الحوتَ الأكولا
قد جمعتَ الموتَ في صدركَ والعيشَ الجميلا
ليتَ شعري أنتَ مهدٌ أم ضريحٌ؟
لست أدري
كم فتاةٍ مثلِ ليلى وفتىً كابنِ الملوَّحْ
أنفقا الساعاتِ في الشاطئ تشكو وهْوَ يشرحْ
كلَّما حدَّثَ أصغتْ وإذا قالتْ ترنَّحْ
أحفيفُ الموج سِرٌّ ضيَّعاهُ؟
لست أدري
كم ملوكٍ ضربوا حولَكَ في الليلِ القبابا
طلعَ الصبحُ ولكنْ لم تجدْ إلا الضبابا
ألهم يا بحرُ يوماً رجعةٌ أم لا مآبا؟
أهمُ في الرملِ قال الرملُ : إنِّي
لست أدري
فيك مثلي أيها الجبّارُ أصدافٌ ورملُ
إنَّما أنت بلا ظلٍّ ولي في الأرضِ ظلُّ
إنَّما أنت بلا عقلٍ ولي يا بحرُ عقلُ
فلماذا يا تُرى أمضي وتبقى؟
لست أدري
يا كتابَ الدهرِ قلْ لي ألهُ قبلٌ وبعدُ؟
أنا كالزورقِ فيهِ وهْوَ بحرٌ لا يُحدُّ
ليس لي قصدٌ فهلْ للبحرِ في سيريَ قصدُ؟
حبَّذا العلمُ ولكنْ كيف أدري؟
لست أدري
إن في صدريَ يا بحرُ لأسراراً عجابا
نزلَ السترُ عليها وأنا كنتُ الحجابا
ولذا أزدادُ بُعداً كُلَّما ازددتُ اقترابا
وأراني كلَّما أوشكتُ أدري
لست أدري
إنني يا بحرُ بحرٌ شاطئاهُ شاطئاكا
الغدُ المجهولُ والأمسُ الذانِ اكتنفاكا
وكلانا قطرةٌ من ذا وذاكا
لا تسلني ما غدٌ ما أمسِ إنِّي
لست أدري
قيل لي في الدير قومٌ أدركوا سرَّ الحياةْ
غيرَ أني لم أجدْ غيرَ عقولٍ آسناتْ
وقلوبٍ بليتْ فيها المنى فهْيَ رفاتْ
ما أنا أعمى فهل غيريَ أعمى؟
لست أدري
قيلَ أدرى الناسِ بالأسرارِ سُكّانُ الصوامعْ
قلتُ إن صحَّ الذي قالوا فإنَّ السرَّ شائعْ
عجباً كيف ترى الشمسَ عيونٌ في براقعْ
والتي لم تتبرقعْ لا تراها
لست أدري
إن تكُ العزلةُ نُسكاً وتقىً فالذئبُ راهبْ
وعرينُ الليثِ دَيرٌ حُبُّه فرضٌ وواجبْ
ليت شعري أيميتُ النسكُ أم يُحيي المواهبْ؟
كيفَ يمحو النسكُ إثماً وهْوَ إثمُ ؟
لست أدري
إنني أبصرتُ في الديرِ وروداً في سياجِ
قَنعتْ بعد الندى الطاهرِ بالماءِ الأُجاجِ
حولَها النورُ الذي يُحيي وترضى بالدياجي
أمن الحكمةِ قتلُ القلبِ صبراً؟
لست أدري
قد دخلتُ الديرَ عند الفجرِ كالفجرِ الطروبْ
وتركتُ الديرَ عند الليلِ كالليلِ الغضوبْ
كان في نفسيَ كربٌ صارَ في نفسيْ كروبْ
أمن الديرِ أم الليلِ اكتئابي؟
لست أدري
قد دخلتُ الديرَ أستنطقُ فيه الناسكينا
فإذا القومُ من الحيرةِ مثلي باهتونا
غلبَ اليأسُ عليهم فهُمُ مستسلمونا
وإذا بالبابِ مكتوبٌ عليه
لست أدري
عجباً للناسكِ القانتِ وهْوَ اللوذعيْ
هجرَ الناسَ وفيهمْ كلُّ حُسنِ المبدِعِ
وغدا يبحثُ عنهُ في المكانِ البلقعِ
أرأى في القفرِ ماءً أم سراباً
لست أدري
كم تماري أيُّها الناسكُ في الحقِّ الصريحْ
لو أرادَ اللهُ أنْ لا تعشقَ الشيءَ المليحْ
كان إذ سوّاكَ سوّاك بلا عقلٍ وروحْ
فالذي تفعلُ إثمٌ قال إني
لست أدري
أيُّها الهاربُ إنَّ العارَ في هذا الفرارْ
لا صلاحٌ في الذي تفعلُ حتى للقفارْ
أنت جانٍ أيُّ جانٍ قاتلٌ في غيرِ ثارْ
أفيرضى اللهُ عن هذا ويعفو؟
لست أدري